هل تساءلت يومًا عن مصير هاتفك المحمول بعد أن تستبدل به آخرَ أكثر حداثة؟ أو عن المآل الأخير للوحة الأم لجهاز الكومبيوتر المحمول القديم الخاص بك بعد قرارك بإلقائها في سلة المهملات؟ ربما يكون المصير في بلد نامٍ كمصر، هو إعادة البيع نظير ثمن أقل، إلى أن يأتي يوم يتوجب فيه التخلص من هذه الأشياء نهائيًّا عند انتهاء عمرها الافتراضي.
قد تتوقع أن يُلقى بالهاتف أو لوحة الدوائر الإلكترونية داخل محرقة للمخلفات الصلبة للتخلص منهما، إلا أن الأمر ليس بتلك البساطة، إذ إن هناك عددًا من الأنشطة الصناعية والاقتصادية التي تتجاوز عائداتها مليارات الدولارات قائمة على هذه الأجهزة الخربة منتهية الصلاحية. إذ تسعى العديد من الشركات لاستخلاص مواد ثمينة من هذه المخلفات، كالذهب والفضة والنحاس، فيما يُعرف بإعادة تدوير المخلفات الإلكترونية.
وتعرَّف المخلفات الإلكترونية على أنها إحدى أنواع المخلفات الأسرع نموًّا حول العالم، وتشمل المعدات الكهربائية أو الإلكترونية التي يجري التخلص منها مثل أجهزة التليفزيون القديمة، والهواتف المحمولة والبطاريات التي تحتوي على المواد السامة، مثل الرصاص، والتي يمكنها أن تتسبب في تلوث البيئة وفي مشكلات صحية إذا جرى التخلص منها بطرق غير سليمة مثل الحرق.
ويحتل الذهب صدارة البحث عن المعادن الثمينة ضمن المخلفات الإلكترونية، إذ لا يقتصر استخدامه على صناعة الحُلي فحسب، بل يمتد ليشمل صناعة بعض الأدوات الطبية والأجهزة الإلكترونية، وحتى صناعات الزجاج الملون. ويُستخرج الذهب اعتياديًّا عن طريق التعدين، إلا أن التكلفة المرتفعة لتلك العمليات، وندرة المعدن النسبية يتسببان في رفع سعر الذهب باطِّراد، كما أن استخدامه كملاذ آمن للاستثمار يُسهم في ارتفاع مبيعاته عامًا بعد عام.
تقنية انتقائية
لكن يبدو أن التعدين ليس الطريق الوحيد للحصول على المعدن الثمين، فإعادة تدوير الذهب من مصادر ثانوية مثل المخلفات الإلكترونية يُعَد حلًّا أقل تكلفة، وقد تزايدت الآمال في تلك الطريقة بعدما توصل فريق بحثي كندي إلى وسيلة لاستخراج الذهب في ثوانٍ معدودة بأسلوب بسيط، ورخيص في آن واحد، باستخدام حامض الخليك (الأستيك).
التقنية التي توصل إليها فريق علمي يقوده <ستيفن فولي>، أستاذ الكيمياء بجامعة ساسكاتشوان الكندية، تستخدم حمض الخليك بتركيز خمسة في المئة (5%) لاستخلاص الذهب من الدوائر الإلكترونية خلال 10 ثوانٍ فقط، وفق فولي الذي يقول في مقال نُشر على موقع الجامعة إن الأسلوب الجديد أكثر بساطة وأقل ضررًا، بل وأقل تكلفةً من الطُّرق القديمة التي تعتمد على حرق المخلفات أو معالجتها بالمحاليل باهظة الثمن.
ويستخدم مصنعو الدوائر الإلكترونية معدن الذهب في الأجهزة التي تحتاج إلى فولتية كهربائية منخفضة، إذ إن التيار الكهربي المار في الموصلات المصنوعة من ذلك المعدن لا تُعاني من تشوه أو مُقاومة عالية، كما أن ذلك المعدن يملك صفة فريدة من نوعها؛ فقدرته العالية على مُقاومة التآكل لا يضاهيه فيها معدن آخر، وكفاءته العالية في توصيل التيار الكهربي تضعه على رأس قائمة الموصلات، الأمر الذي يجعل المصنعين يستعينون به كموصِّل في الدوائر المتكاملة رغم التكلفة الباهظة.
وهناك نوعان من العمليات الصناعة الحالية لاستخلاص الذهب من المخلفات الإلكترونية؛ الأول هو حرق تلك الدوائر داخل أفران تحت درجات حرارة عالية، وهي عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة وباهظة التكلفة وتتسبب في انبعاث غازات ومركبات ضارة على الصحة والبيئة. والثاني هو المعالجة بالمحاليل التي ترشح المواد الكيميائية، مثل محلول السيانيد أو الماء الملكي، وهو خليط بتركيزات مختلفة من أحماض النيتريك والهيدروكلوريك، وهو أسلوب مكلِّف أيضًا، وقد يتسبب في إحداث سمية عالية للمتعاملين معه.
يتكلف استخراج الذهب من المناجم نحو 919 دولارًا لكل كيلوجرام في المتوسط، شاملاً العمالة والتجهيزات، إذ إن كُل طن من الحجارة يُنتج نحو 3.4 جرامات من الذهب، إلا أن فولي وباستخدامه للتقنية الجديدة؛ يستطيع استخراج الكيلوجرام من الذهب بتكلفة لا تزيد على 66 دولارًا. ويشير فولي إلى أن مميزات تلك التقنية لا تقتصر على كونها رخيصة فحسب، فالطريقة التي ابتكرها تحافظ على المخلفات الناتجة بعد استخلاص الذهب ليُعاد العمل عليها واستخراج معادن أخرى منها. ووفق فولي، يمتاز استخدام حمض الخليك بالانتقائية لمعدن الذهب دون أن يذيب المعادن الأساسية الأخرى؛ مثل النحاس والنيكل والحديد والكوبالت، والتي عادة ما تكون مصاحبة للذهب داخل الأجزاء الداخلية للأجهزة الإلكترونية.
قدرات محلية
وفقًا لدراسة إحصائية أجراها في مصر الدكتور حسام علام -المدير الإقليمي بمركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا (سيداري)- يتوقع علام وزملاؤه أن يصل حجم إنتاج الذهب الموجود في الأجهزة الكهربائية خلال السنوات الخمس القادمة إلى 9 أطنان ذهبًا، بما يوازي 300 مليون دولار، وهو رقم ليس بالقليل، خاصة إذا علمنا أن حجم إنتاج منجم السكري الذي يعد أحد أهم مصادر خام الذهب في مصر قد بلغ 11 طنًّا خلال عام 2014.
وبهدف وضع صورة أكثر وضوحًا عن الوضع الحالي للمخلفات الإلكترونية في مصر، وقعت مصر في مارس الماضي اتفاقية شراكة مع سويسرا بقيمة 1.17 مليون فرنك سويسري، لدعم التكامل المستدام في المشروعات الصغيرة والمتوسطة في مجال إعادة تدوير المخلفات الإلكترونية. وما يصاحب ذلك من إجراء دراسات دقيقة من أجل تحديد الكميات والأنواع، وكذلك آليات دعم الصناعات القائمة على تدوير المخلفات الإلكترونية.
ووفق البيان الصادر عن السفارة السويسرية آنذاك، فإن إعادة تدوير المخلفات الإلكترونية لها ثلاث فوائد مهمة هي: الحد من التلوث، والمحافظة على الموارد الطبيعية الثمينة، وخلق فرص عمل جديدة. ويؤكد المهندس خالد لطفي العطار -رئيس قطاع البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات في مصر- الأمر بقوله: إن المشروع لديه ثلاثة أهداف أساسية؛ الهدف الأول هو المساهمة في تعزيز سياسات ومعايير الإدارة المستدامة للموارد الثانوية. والهدف الثاني هو خلق القدرات المحلية لصناعات إعادة التدوير المستدامة، والثالث هو توفير المعلومات الناتجة عن تجارب المشروع لمدن بشتى أنحاء مصر ودول أخرى أيضًا.
محاذير وضوابط
ولا يقل البعد البيئي أهمية عن البعدين التنموي والصناعي لتدوير المخلفات الإلكترونية، إذ إنه ينعكس على حماية الأفراد والبيئة من مخاطر هذه المخلفات، عبر التعامل الآمن معها. إذ تحتوي تلك المخلفات على أكثر من 1000 مادة سامة يمكنها تلويث البيئة والتسرب إلى المياه أو التربة، في حال عدم معالجتها معالجة سليمة. وإذا جرى حرقها؛ تتصاعد سمومها إلى الهواء. ويمكن للمواد العضوية والمعادن الثقيلة الصادرة عن هذه المخلفات أن تظل كامنة في التربة لسنوات ممتدة قد تصل إلى 25 سنة، وفقًا للظروف المحيطة، وتنتقل سمومها ببطء إلى فم الإنسان والحيوانات التي تتغذى عليها.
وفي هذا الإطار يقول علام: "إن وضع تدوير المخلفات الإلكترونية في مصر لا يخلو من الأمل"، ويستطرد: "عندما نرجع بالزمان لأربع سنوات ماضية لم تكن هناك أي شركات عاملة في المجال، واليوم لدينا أربع شركات مسجلة"، وهو تطور مبشر رغم الحاجة الماسة لإدخال تعديلات على القوانين واللوائح المحلية والمنظمة لتكهين الأجهزة الكهربائية من خلال المزادات. ومنها عدم ترك باب الدخول مفتوحًا لحاملي السجل التجاري فقط دون ضمان للكيفية التى سيجري بها التعامل مع هذه المخلفات بيئيًّا وصحيًّا، وهو ما يُشترط له توافر رخصة.
ويوضح الدكتور طارق العربي -مدير مشروع مرفق البيئة العالمية لإدارة المخلفات الإلكترونية والطبية- أن هناك مشكلات عديدة تنتج عن الممارسات الخطأ في التعامل مع المخلفات الإلكترونية كأجهزة الحاسب الآلي أو التليفونات المحمولة لبائعي الروبابيكيا والخردة، إذ إنهم يتبعون أساليب بدائية في استخلاص المعادن الثمينة من داخل المخلفات، تفتقر إلى اشتراطات السلامة والأمان. يقول العربي: "على الرغم من أن الأدخنة المتصاعدة عن حرق المخلفات الإلكترونية لا تُشكِّل كميات كبيرة، ولكن الخطر يتمثل في الملوثات العضوية كناتج أخير، إذ تبقى في الهواء لآلاف السنين، وتنتقل إلى مسافات بعيدة تصل لآلاف الكيلومترات".
وفي دراسة علمية أجرت مجموعة من التجارب على متطوعين، حول طرق التعامل مع المخلفات الإلكترونية، ونُشرت بمجلة Waste Management، وقادها الباحث <رافي نايدو> المدير التنفيذي لمركز البحوث التعاونية للتلوث والتقييم والمعالجة للبيئة (CRC CARE)، وهي منظمة مستقلة معنية بالبحث العلمي، اختبر خلالها عينات من الدم والبول لعدد من العاملين في مجال المخلفات الإلكترونية في الصين، علاوة على عينات من حليب أبقار تعيش في المنطقة، لاحظ وجود تركيزات عالية من مادة ثنائي الفينيل متعدد الكلور في عينات اللبن بنسبة 9.5 نانوجرام لكل جرام، ما يُجاوز الحد المسموح به. ليصل نايدو إلى نتيجة هامة، فالتأثير السام لهذه المخلفات يشمل الصحة العامة، إما من خلال السلم الغذائي الذى يقبع الإنسان على رأسه، أو بشكل مباشر نتيجة التعرض للأدخنة المتصاعدة، أو ملامسة هذه المواد السامة خلال مراحل تدوير المخلفات الإلكترونية. وهو ما أكده عدد من الباحثين في دراسات أخرى بدول مثل كمبوديا والهند وإندونيسيا وتايلاند وعدد من الدول النامية الأفريقية مثل نيجيريا التي يشيع نقل المخلفات الإلكترونية إليها.
وتُعد مُركبات ثنائي الفينيل مُتعدد الكلور من الملوِّثات العضوية التى تتراكم في البيئة، إذ تُشكل تهديدًا يستمر لعقود، مُسببةً مشكلات صحية وبيئية.
وعلى الرغم من كون أوروبا وأمريكا وآسيا، على الترتيب، هي أكثر القارات إنتاجًا للمخلفات الإلكترونية، فإن الكثير من هذه النفايات ينتهي به المطاف في العالم النامي. على سبيل المثال عالجت الصين حوالي 70٪ من مخلفات العالم الإلكترونية في عام 2014 وفقًا لمقال نُشر مؤخرًا بمجلة نيتشر. والنسبة الباقية ذهبت إلى الهند وغيرها من البلدان في شرق آسيا وأفريقيا. وهو الأمر الذي يعكس الضرورة الملحة لنهج عالمي لإدارة حجم المخلفات الإلكترونية وتدفقها، وعمل تشريعات وطنية أكثر حزمًا على الواردات والصادرات، وكذلك زيادة الوعي بالمشكلة بين المستهلكين.
تشريعات إعادة التدوير
وحاليًّا يعمل الدكتور العربي وفريقه على إعداد مشروع تشريعي لبيع المخلفات الإلكترونية وتدويرها من خلال قصرها على الكيانات الحاصلة على شهادة أو رخصة لمزاولة هذا النشاط. وفقًا لمعايير واشتراطات منظمة للعمل ضمن اتباع آليات السوق والمنافسة. وهو ما يعني خطوة لاعتماد الكيانات العاملة في تجميع المخلفات الإلكترونية -سواء المصانع أو الشركات- وتدويرها في قنوات رسمية، إلى جانب خلق كيانات مدربة. ويؤكد أن مصر بدأت أولى خطواتها على طريق التعامل مع المخلفات الإلكترونية بما يضمن تنظيمها كصناعة واعدة، وأيضًا بما يحمي من أخطار بيئية وصحية.
ويقول أحمد سالم -مدير شركة EERC الشركة المصرية لتدوير الإلكترونيات-: "يسيطر تجار الخردة على 75% من سوق المخلفات الإلكترونية، لذا نجد تلالًا من الأجهزة الإلكترونية القديمة في مناطق الدويقة وبشتيل وعكرشة بأبي زعبل"، منتقدًا عشوائية إدارة المخلفات الإلكترونية وجشع تجار الخردة وعدم درايتهم بالخطورة الكامنة فيها. ويضرب مثالًا بالتعامل مع الشاشة؛ إذ يلجأ العامل إلى تكسير الزجاج لعدم أهميته بالنسبة له، ومن ثم يترك الرصاص. ويستطرد: «للأسف أغلب هذه الممارسات تجرى في مناطق سكنية، وهو ما يعرض العاملين وساكني المنطقة للسموم على السواء».
ويرى سالم أن أكبر تحدٍّ أمام قيام المشروعات هو عدم وجود قانون لتنظيم حركة المخلفات الإلكترونية وإدارة الهالك، مؤكدًا أن مبادرات المجتمع المدني لا بد وأن يكون لها دور أكثر فاعلية في مشروعات الاستفادة من المعادن الثمينة كالذهب والفضة والنحاس الموجودة بالمخلفات الإلكترونية، وتحويلها إلى صناعة مساهمة في الاقتصاد القومي وتوفير فرص للعمل.
ويقترح سالم تحديد نقاط لتجميع هذه المخلفات في القاهرة الكبرى وباقي المحافظات، على أن تكون موزعة في المراكز التجارية الكبرى والأندية ودور العبادة، سواء دون مقابل (تبرعات) أو بمقابل مادي بسيط. ويلي ذلك نقل هذه الأجهزة إلى مصانع ذات طاقة استيعابية كبيرة للتدوير خارج المدينة، حيث يتم تصنيفها وإعادة استخدام ما يصلح منها أو بدء إجراءات الفك. وهو ما يترجم إلى آلاف من فرص العمل، إضافة إلى نشر الوعي بضرورة التخلص الصحيح من هذه المخلفات.
تعليقات
إرسال تعليق